تسببت الخسائر التي شهدتها الأسواق العالمية مؤخرًا في انتشار المخاوف حول اقتراب الركود الاقتصادي الأميركي، مما كان سببًا مباشرًا في خسارة سوق الأسهم الأمريكية واختفاء أكثر من 6 تريليون دولار بعد صدور البيانات السلبية عن سوق الوظائف الأمريكية، فهل حقا اقترب الاقتصاد الأميركي من الركود أم أن هناك مبالغة في ذلك؟
نيو نيوز - بزنس
أعلنت الشركات الأمريكية عن توفر 114 ألف وظيفة فقط في شهر يوليو، الأمر الذي يعتبر أقل بكثير من التوقعات بـ 175 ألف وظيفة جديدة خلال العام الجاري، ويعتقد الخبراء أن الاقتصاد الأمريكي قد استطاع إثبات قوته من التعافي بعد أزمة وباء كورونا بسرعة ملحوظة، مما جعله يصمد مرارًا أمام كافة التنبؤات باحتمال حدوث ركود اقتصادي وشيك، حيث أثبت مرونته في مواجهة التضخم وأسعار الفائدة المرتفعة التي استخدمها بنك الاحتياطي الفيدرالي للتغلب عليه.
إلا أن هذه المرة ثمة بعض العوامل التي جعلت احتمال حدوث الركود الذي اعتبره العديد من المتنبئين ذات يوم وشيك وكأنه إنذار كاذب ينطلق بين الحين والآخر، إلا أنه بحاجة إلى أخذه في الاعتبار.
تقرير الوظائف الأمريكية كان سببًا في إذاعة المخاوف حول الركود الاقتصادي
جاء تقرير بيانات الوظائف الأمريكية الصادر مؤخرًا مخيبًا للآمال بعض الشيء، والذي أظهر تباطؤ التوظيف في يوليو، وارتفاع مفاجئ في البطالة في الولايات المتحدة. الأمر الذي أدى إلى انطلاق صافرة الإنذار مجددا حول موجة محتملة من الركود قد تعصف بالاقتصاد الأمريكي خلال الأشهر القادمة.
وقد تسبب ذلك في حدوث طفرة بيع في سوق الأسهم حيث شعر المستثمرون بالقلق من أن التباطؤ الاقتصادي قد يكون وشيكًا، مما تسبب في حدوث انهيار في الأسواق المالية في جميع أنحاء العالم.
وقال بعض خبراء الاقتصاد أن المستثمرين كانوا يبالغون في رد فعلهم على تقرير ضعيف، ولكنه ليس كارثيا، حيث تظهر العديد من المؤشرات أن الاقتصاد الأمريكي ما زال يقف على أرض صلبة.
مؤشرات اقتصادية من الماضي قد تستدعي القلق في الحاضر
وعلى الجانب الآخر، قال المحللون إن هناك أيضا أسبابًا وخلفيات تاريخية خاصة بالاقتصاد الأمريكي قد تستدعي القلق في الوقت الحاضر. فمثلًا كانت الزيادات في معدلات البطالة في الماضي شبيهة إلى حد ما بما جاءت به بيانات يوليو الجاري، حيث ارتفع معدل البطالة إلى 4.3 في المئة، وهو أعلى مستوى منذ عام 2021. ويعد مؤشر البطالة في حد ذاته دليلًا على اقتراب حلول الركود، فيما يعرف بقاعدة “ساهم”.
تشير القاعدة، التي يُعزى إليها الخبيرة الاقتصادية الأمريكية في بنك الاحتياطي الاتحادي، كلوديا ساهم:
“إن ارتفاع متوسط معدل البطالة بنصف نقطة مئوية خلال ثلاثة أشهر، مقارنة بأدنى مستوى سُجِّل في الأشهر الاثني عشر السابقة، يُعتبر مؤشرا مبكرا لاقتراب ركود اقتصادي”
كما أشار المحللون إلى أنه حتى وإن لم تصدر تلك البيانات التي وجهت ضربة كبرى إلى سوق الأسهم العالمية، فإن ثمة مؤشرات أخرى كانت موجودة بالفعل للدلالة على التباطؤ في سوق العمل الأمريكي.
يأتي هذا في الوقت الذي ارتفعت فيه توقعات خبراء الاقتصاد في جولدمان ساكس حول احتمال حدوث الركود الاقتصادي بنسبة 25 في المئة خلال العام المقبل، وذلك بعد توقعات بنسبة 15 في المئة قبل الجولة الأخيرة من البيانات الاقتصادية.
ولكن كل هذا لا يعني – في نظر الخبراء – أن الركود أو الانكماش الاقتصادي أمر لا مفر منه، فالوضع هذه المرة يبدو مختلفًا عن الماضي.
لماذا تعتبر التوقعات القاتمة غير دقيقة… حتى الآن
هناك فرق حاسم بين توقعات الركود السابقة غير الدقيقة والتحذيرات الأخيرة التي أطلقها الخبراء. ففي الماضي كانت التوقعات السابقة تستند إلى حد كبير إلى الأنماط التاريخية والنماذج النظرية. أما التوقعات الجديدة، تستند إلى أدلة فعلية على التباطؤ.
فعلى سبيل المثال، كانت نسبة التضخم مرتفعة في عام 2022 عندما بدأ خبراء الاقتصاد في التنبؤ بالركود في العام ذاته، وكان بنك الاحتياطي الفيدرالي يرفع أسعار الفائدة بقوة لمحاولة السيطرة عليه. ومن ثم كانت هذه الظروف تؤدي عادة إلى الركود، حيث يحاول صناع السياسات كبح الطلب بما يكفي لخفض التضخم، لكن ينتهي بهم الأمر إلى المغالاة في الأمر والتسبب في تسريحات واسعة النطاق للعمال.
ولكن الوضع يبدو مختلفًا هذه المرة. فقد خرج المستهلكون والشركات من الأزمة الوبائية العالمية بمدخرات وفيرة وديون قليلة نسبيًا، مما جعلهم أكثر تحصنًا ضد تكاليف الاقتراض الأعلى. وفي الوقت نفسه، سمح تخفيف القيود المرتبطة بالوباء بتلاشي الضغوط المترتبة على التضخم دون الحاجة إلى خفض كبير في الطلب على السلع والخدمات.
تقول تارا سينكلير، الخبيرة في جامعة جورج واشنطن، إنه حتى مع تحذير العديد من خبراء الاقتصاد من ركود وشيك، لم تعكس البيانات دلائل على حدوثه بالفعل. فقد تباطأت عمليات التوظيف ونمو الأجور والإنفاق الاستهلاكي، لكن لم ينهار أي منها. وظلت البطالة بالقرب من أدنى مستوياتها منذ عقود.
وأضافت بأن الفيصل دائمًا هو النظر إلى الناتج المحلي الإجمالي، باعتباره المؤشر الأكثر موثوقية للدلالة على أن وتيرة النمو الاقتصادي تسير بصورة طبيعية، وفي بعض الأحيان قوية.
ولكن، لماذا عادت مخاوف الركود إلى الظهور مجددا؟
والآن – بحسب الخبراء – بدأت الشقوق في الظهور. فقد بدأ المزيد من الناس في التأخر عن سداد فواتير بطاقات الائتمان وأقساط السيارات، كما بدأت طلبات الحصول على إعانات البطالة في الارتفاع، صحيح أن الإنفاق الاستهلاكي الإجمالي ما زال قويًا – والذي يبلغ 70% من حجم الاقتصاد – إلا أن ثمة دلائل قوية على تراجع الأحوال المعيشية للمستهلكين من ذوي الدخل المنخفض.
وقالت كلوديا ساهم، التي طورت القاعدة الشهيرة، إن الاضطرابات في أثناء الجائحة، وبعدها ربما أثرت في نتائج مؤشرها الاقتصادي الذي يحمل اسمها. إلا أنها أكدت أن المنطق الأساسي يقول إن حتى الفروقات البسيطة في نسب البطالة هي شيء يدعو للقلق، مشيرة إلى أن الوضع الراهن يبرهن على أنه لا يوجد ركود اقتصادي، ولكن هذا لا ينفي أن الخطر ما زال قائمًا خلال الأشهر المقبلة.
أسباب قد تدعو إلى التفاؤل
الركود الاقتصادي الأمريكي وتحليل الواقع
وفقًا لمعظم المقاييس، فإن الاقتصاد الأمريكي يتباطأ بالفعل، ولكن لم يصل حافة الركود. فقد ظلت المقاييس جميعها التي يستخدمها المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية لتحديد متى تبدأ فترات الركود وتنتهي – كالإنفاق الاستهلاكي والدخل الشخصي ونمو الوظائف – إيجابية بشكل ثابت.
كما نما الناتج المحلي الإجمالي بشكل أسرع في الربع الثاني مقارنة بالربع الأول، ومن المتوقع أن يحقق المزيد من المكاسب خلال الربع الثالث. كما أظهرت بيانات حديثة أخرى نموا قويا غير متوقع في الإنتاجية وانتعاش قطاع الخدمات.
وبالإضافة إلى ذلك فإن التضخم يتراجع بصورة واضحة، مما يمنح بنك الاحتياطي الاتحادي المزيد من الحرية لخفض أسعار الفائدة في حال تباطؤ الاقتصاد دون القلق من أن هذا الإجراء من شأنه التسبب في رفع الأسعار بصورة سريعة.
كما يعتقد بعض الخبراء أنه من المرجح أن تكون بعض الظروف الطارئة مثل إعصار بيريل قد أثرت في بيانات الوظائف الأمريكية. مما ساهم في ضعف الرواتب في يوليو، حيث صرح نحو 436 ألف شخص بعدم قدرتهم على العمل في أثناء الظروف الجوية الصعبة.
وصرح رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، في مؤتمر صحفي الأسبوع الماضي قبل تقرير الوظائف أو هبوط السوق:
“إن البنك المركزي قد يخفض أسعار الفائدة في وقت مبكر في سبتمبر المقبل”
وهو ما يراه المستثمرون الآن أمرًا شبه مؤكد.
ويتوقع بعض المستثمرين أن يتدخل بنك الاحتياطي الاتحادي حتى قبل ذلك، على الرغم من أن مراقبي البنك الحذرين يعتبرون مثل هذه الخطوة الطارئة غير مرجحة.
والتحدي الذي يواجه صناع السياسات الآن هو أنه بعد عامين من السعي إلى إبطاء وتيرة الضغوط الاقتصادية، فإنهم يهدفون نحو تحقيق ما هو أصعب، الاستقرار الاقتصادي، هذا وسط بيانات مضطربة وغير دقيقة ومتناقضة في بعض الأحيان. الأمر الذي يؤكد أن الركود لم يحدث بعد، ولكنه ليس مستحيلًا.
المصدر: نيويورك تايمز
اشترك في نشرة نيو نيوز الإخبارية
كن أول يصله آخر الأخبار العربية والعالمية